د. عمر بن عبد الله المقبل
هذه قاعدة من القواعد النبوية المحكمة في شأن العلاقة مع الله تعالى، والتي دلّ عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً".
إن في النفوس المؤمنة لرغبة في التصدق والبذل، وميلاً قوياً لإخراج بعض ما رزقها الله من فضله الواسع، وتأتي هذه القاعدة لترسم المنهج الذي يجب أن يدركه كلُّ مؤمن، وأن مقياس القبول عند الله ليس بكثرةٍ ولا عدد، بل بصفة ذلك الذي يخرجه الإنسان ويبذله.
ولئن كانت هذه القاعدة النبوية "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً» ظاهرة الارتباط بالشأن المالي؛ فهي تتسع أيضاً لتشمل ما هو أوسع من ذلك، فيدخل فيها كل الأعمال والأقوال، بل حتى الذوات، تأمل معي - أيها القارئ - هذه الآيات الكريمة:
قال تعالى في سياق غزوة أحد: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ"[آل عمران: 179] فهذا ذكر الطيب في تمييز القلوب الطيبة من ضدها.
وقال سبحانه في سياق غزوة بدر: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[الأنفال: 36، 37] إنه تحميص الطيب من الخبيث في الأموال، فتأمل كيف أن هذه الأموال العظيمة التي ينفقها الكفار في حرب الإسلام يجمعها وصف واحد: وهو الخبث، وإن بلغت المليارات!
وفي مقام طيب الأعمال والأقوال والعقائد، يقول الله تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ"[فاطر: 10].
إذن: فهذه القاعدة "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً" تتسع لتشمل هذه المعاني كلها، فهي حِكمة نبوية تضع الأساس لحياة طيبة، وآخرة سعيدة.
ولعظيم مدلول هذه القاعدة؛ قال الإمام أبو داود السجستاني - صاحب السنن -: نظرت في الحديث المسند؛ فإذا هو أربعة آلاف حديث! ثم نظرت؛ فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث، وذكر منها هذه القاعدة "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً"، ثم قال: فكل حديث من هذه ربع العلم" (1)! فقاعدتنا هذه - أيها الأخ الكريم - هي رُبع العلم! ومن عرف سعة العلم وتبحُّرَه بان له قدرُ هذه القاعدة العظيمة، ومعنى كونها ربع العلم.
إن الطيب الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة: "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً" يعني: الطاهر المنزّه عن النقائص، الذي لا يعتريه الخُبث بأي حالٍ من الأحوال (2)، "وإذا وُصِف به العبدُ مطلقاً أُريدَ به: أنه المتعري عن رذائل الأخلاق، وقبائح الأعمال، والمتحلي بأضداد ذلك، وإذا وُصف به الأموالُ أريدَ به كونه حلالاً من خيار الأموال" (3).
فهو في حق الله تعالى يعني أنه سبحانه وتعالى طيّب في ذاته، طيّب في أسمائه، طيب في صفاته، طيب في أفعاله، طيب في أحكامه، ذاته هي الطاهرة المقدسة، وأسماؤه هي الحسنى البالغة في الحسن منتهاه، وصفاته هي العلية البالغة في العلو أقصاه، وأفعاله هي الحائزة من الخير أزكاه، وأحكامه هي العدل الذي لن تجد البشرية طريقاً إلى العدل سواه: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى".
ولما كان سبحانه وتعالى طيباً لم يقبل أن يصعد إليه من العباد إلا ما كان طيباً "لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها - كالرياء والعجب -، ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً؛ فإن الطيب يوصَف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، فكل هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيث.
وقد قيل: إنه يدخل في قوله تعالى:"قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث"[المائدة: 100]هذا كلُّه.
وقد قسّم اللهُ تعالى الكلام إلى طيِّب وخبيث؛ فقال:"ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة"[إبراهيم: 24]، "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة"[إبراهيم: 26]، وقال تعالى: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ"[فاطر: 10]، وَوُصف الرسولُ صلى الله عليه وسلم بأنه يُحل الطيبات ويُحرِّم الخبائث" (4).
فانظر - أيها المحب لله ورسوله - فيما تأتي وتذر: أهو طيب فتكثر منه؟ أم خبيث فتتجنبه؟
إنه ميزان يجيب عن كثير من التساؤلات التي قد يطرحها بعض المجادلين بغير حق، ولو أنهم طبقّوا هذه القاعدة لاستراحوا وأراحوا!
تجد بعض الناس المبتلين بالتدخين - مثلاً - يجادلك في حِلّه وحرمته، ومن أقصر الطرق لذلك أن يُذكّر هذا المسلم بمثل هذه القاعدة: "إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً" فبالله عليك، مع أي القسمين تضع هذا الشراب؟ مع الطيب أم الخبيث؟ فلن يتردد عاقل بأنه خبيث، إذن: فالله تعالى لا يقبله ولا يحبه!
إذا تبين هذا: فاعلم - أيها الموفق - أن هذا "الطيب" الذي لا يقبل الله سواه، يمتد زمانه إلى الدار الآخرة، فلن يدخل الجنة إلا نفسٌ طيبة، وهي النفس المؤمنة، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء، بل إذا كان في النفس خبثٌ – وصاحبُها من أهل التوحيد - طُهّرت وهُذّبت حتى تصلح لسكنى الجنة، كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين إذا نجوا من النار - أي عبروا الصراط - وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ فيقتص لبعضهم من بعض؛ مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، فإذا هُذّبوا ونُقّوا: أُذن لهم في دخول الجنة" (5)" (6).
فليحرص كل مؤمن أن يكون "كلُّه طيّب: قلبُه ولسَانُه وجسَدُه؛ بما سكن في قلبِه من الإيمان، وظهرَ على لسانه من الذِّكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرةُ الإيمان، وداخلةٌ في اسمه، فهذه الطيبات كلها يقبلها الله عز وجل.
ومن أعظم ما يحصل به طِيب الأعمال للمؤمن: طِيب مطعمه، وأن يكون من حلال؛ فبذلك يزكو عملُه" (7)، وهذا من أهم المطالب وأعلاها عند أهل الإيمان، ولو كان أحدٌ يستغني عن الوصية بذلك لاستغنى الرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين خاطبهم الله بقوله: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"، والطيبات - كما يقول الشنقيطي رحمه الله -: "هي الحلال الذي لا شبهة فيه، وأن يعملوا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك" ثم قال: "وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف" (
.
فإن قلتَ: كيف نميز بين الطيب والخبيث؟
فالجواب عن ذلك: أن مدار معرفة الطيب من الخبيث وضابطه: هو شرعُ الله تعالى، ولا يمكن أن يُرَد هذا إلى عقول الناس؛ لأنه يفتح من الشر والخلاف ما الله به عليم، فمن الناس مثلاً من يستقذر ويستخبث بعض المباحات، ومنهم - ممن انتكست فطرته - من يستطيب المحرمات!
اللهم اجعلنا طيبين مطيَّبين، في اعتقادنا وأقوالنا وأفعالنا، واجعل حياتنا طيبة، وقلوبنا سليمة، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.