لقد عظَّم الله تعالى حقوقَ العِباد، وشَدَّد في النهيِ عن الاستطالةِ على دمائِهم وأموالهم وأعراضِهم، فقال صلى الله عليه وسلم في خُطبةِ الودَاع محذِّرًا من ذلك: «فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في بلَدِكم هذا في شهرِكم هذا، وستَلقَون ربَّكم فيسألُكم عن أعمالكم، فلا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعض» (رواه البخاري).
إذا كان من أَعظمِ الأمور التي نهى الإسلامُ عنها وشدَّد النكيرَ على فاعِلها بعد الشِّرك بالله هو قتل النّفس المعصومة، فإنَّ هذا إفسادٌ في الأرض كبير، وهو أمر جلَل وجريمةٌ منكرةٌ شنيعة، حذَّر منها ربُّنا تعالى، وحذَّر منها نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فقد قال سبحانه وتعالى في مُحكَم كتابه: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة من الآية:32].
وتوعَّد بعظيم الجزاء على من قتلَ مؤمنًا فقال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ اجتمعوا على قتلِ مسلمٍ لأكبَّهم الله جميعًا على وجوههم في النار» (رواه الترمذي وصححه الألباني)، بل حذَّر مِن مجرَّد الإعانة على القتل، رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعان على قتلِ مسلمٍ ولو بشَطر كلمة جاءَ يومَ القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله» (رواه ابن ماجة والعقيلي في الضعفاء والبيهقي في السنن).
عبادَ الله،
أين عقولُ من يدَّعون الإسلام؟! أين دينهم؟! أين خوفُهم من الله؟! ما هذا التساهُلُ في أمر الدماءِ والقتل؟! أهانَ عليهم الأمر حتى صار بعضُهم يفتي لنفسه بحِلِّ دماء الناس ثم يستحلّها؟!
ولقد أخبرنا الصادقُ المصدوق خبرًا يُوجِبُ الحذَرَ والخوف من الله، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ بين يدَي الساعةِ الهرج»، قالوا: وما الهرج؟ قال: «القتل، إنه ليس بقتلِكم المشركين، ولكن قتل بعضِكم بعضًا، حتى يقتل الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمه»، قالوا: ومعنا عقولُنا يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: «إنه لتُنزَع عقول أهلِ ذلك الزمان، ويخلف لهم هباءٌ من النّاس يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء» (رواه الإمام أحمد).
فكيف يُقدِم القاتِل على الفعل وهو يعلَم بشاعةَ جُرمه وفظاعةَ فِعله؟! فقد نصب له خصمًا يومَ القيامة، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يجيء المقتولُ متعلِّقًا بالقاتل، تشخب أوداجُه دمًا يقول: يا ربّ، سَل هذا فيم قتلني؟!» (رواه النسائي).
أفلا يتذكَّر القاتلُ كم نَفس آذى وكم قَلب أَفزع؛ فهذان الوالِدان المكلومان عَصر الألمُ قلوبَهما وأذاقهما كؤوسَ العَلقم والصبر، فحنى الحزنُ ظهورَهما وهدَّ قِوامهما، وأَطفالٌ صِغارٌ فقدوا عائلَهم، ومربِّيهم ينشدون الرحمةَ في قلوب الناس، وربَّما تشتَّتت أحوالهم وتغيَّرت أخلاقُهم، في أيِّ حفرة أردَى القاتلُ فيها نفسه؟! وأيّ ورطةٍ تورَّط فيها؟!
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "إنَّ مِن ورطات الأمورِ التي لا مخرجَ لمن أوقع نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه".
عبادَ الله،
لقد شدَّد الإسلامُ على أمرِ القتل وعظّمه، ولم يعصِم دمَ المسلم فحَسب، بل عَصَم دمَ المسلم ودمَ الكافر، فحرّم الاعتداءَ على مَن أمَّنه المسلمون؛ لأنَّ المسلمين يدٌ واحدة، يسعى بذمَّتِهم أدناهم، فمن قَتل مَن أمَّنوه فقد خانهم واستحقّ عقابَ الله، لقد أخرج البخاريّ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرةِ أربعين عامًا»، قال ابن حجر رحمه الله: "والمرادُ به مَن له عهدٌ مع المسلمين، سواء كان بعقدِ جزيةٍ أو هُدنة مِن سُلطان أو أمانٍ من مسلم".
عبادَ الله،
ما هذه السَّكْرة التي يعيشُها من روَّع المسلمين وخالف جماعتَهم وشذّ عن طريقهم؟! أفلا يتفكَّرون إلى أين يذهبون وما هم عامِلون؟! إنهم يتَّهمون العلَماءَ والمجتمعَ بالضَّلال، وأنهم هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر في وقتٍ تخاذَل فيه الناس، فقاموا بسَفكِ الدماء وترويع الناس ظنًّا أنهم للإسلام ناصرون وللحقِّ مظهِرون، وربما تمادَوا حتى كفَّروا من كفَّروا، وجعلوا ذلك ذريعةً للقتل والتدميرِ والإفساد.
وهذه الفتنُ -يا عبادَ الله- ممّا حذّرنا منه نبيّنا صلى الله عليه وسلم غايةَ التحذير، وحفِظها عنه صحابتُه الكرام رضوان الله عليهم، ونقلها لنا الأئمةُ الأعلام وبيَّنوها لنا أتمَّ بيان، فقد ذكَر ما يحدُث بعدَه من الفتن ودلَّنا على ما يُؤمِّننا منها وما يحصُل لنا به الحمايةُ والسلامةُ من شرِّها، فقال عليه الصلاة والسلام: «أوصِيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة» (رواه أبو داود وحسّنه الألباني).
وإنَّ أوَّل الفِتن ظهورًا كانت في عهدِ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أُناسٌ كفَّروا أهلَ الإسلام من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، فقاتلوهم وسفَكوا دِمائهم، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عنهم أنهم يخرُجون ويقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان أنَّ رجلاً غائرَ العينين مُشرفَ الوجنتين ناشزَ الجبهة كَثَّ اللِّحية محلوقَ الرأس مشمِّر الإزار قال: يا رسولَ الله، اتَّق الله، قال: «ويلك، أوَلَستُ أحقَّ أهلِ الأرض أن يتّقيَ الله؟!» ثم ولَّى الرجلُ، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسولَ الله، ألا أضربُ عنقه؟! قال: «لا، لعلّه أن يكونَ يصلِّي»، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليسَ في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومَر أن أنقِّبَ عن قلوبِ الناس، ولا أن أشقَّ عقولَهم».
فاتّقوا الله عبادَ الله، وصلُّوا على النبيّ، إنّ الله سبحانه وتعالى يأمركم أن تصلُّوا على نبيّه عليه الصلاة والسلام، فصلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الفضلِ العظيم والمنِّ الجسيم، أنعم على عبادِه بأصناف النِّعم، وحذَّرهم من أسباب النِّقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد:
فاتّقوا الله عبادَ الله، اتّقوه حقَّ تقاته ولا تموتنّ إلاَّ وأنتم مسلمون، واعلموا أنَّ تقواه سبحانه هي الحِصن الحصين الواقي من غوائلِ الفِتن والشّرور، وهي التي تيسّر الطريقَ المستقيم الذي ينجو من سلَكَه ويفوز من انتهجه.
عبادَ الله،
إنَّ من توجيهاتِه صلى الله عليه وسلم لعبادِ الله المؤمنين السمعَ والطاعةَ لولاة الأمور ومعاونَتهم على الحقِّ وطاعتهم فيه وتذكيرَهم وتنبيههم برفقٍ ولين وحُبِّ صلاحٍ ورُشدٍ لهم وحُبِّ اجتماعٍ على الكلمة والتديّنَ بطاعتهم في طاعةِ الله سبحانه وتعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاعَ الله، ومن عصاني فقد عصَى الله، ومن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومن عصَى أميري فقد عصاني، وإنما الإمامُ جُنَّة يتَّقى به» (رواه البخاري).
وقد جاء في الحديث عن عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه أنّه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا".
وصلّوا وسلِّموا -عباد الله- على رسولِه المصطفى صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ على محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله،
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:90-91].
فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على نِعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
محمد بن عبد الله السبيل